Tuesday, November 5, 2013

دانتيل إسود


لا أذكر حياتي قبل المخزن . و ذكرياتي عن المخزن مشوشة . أذكر إنها كانت حياة رتيبة . كنت وقتها جزء من توب قماش . لفائف من ألوان متعددة ، مرصوصة فوق بعضها في غرفة كبيرة . حياة رتيبة ، حوارات مكررة عن المستقبل . ماذا بعد المخزن . لم أكن أهتم . فستان سهرة أو بيجامة لا يهم ، كلها مسارات ممتعة . المهم ان تنتهي حياتي الرتيبة في المخزن . 


نقلت من مخزن لأخر ، علمت في إحدى رحلات النقل إن إسمي " دانتيل إسود " . في أخر رحلة لأخر مخزن شاركني الطريق لفائف أخرى ، تشاركنا كلنا في الإسم الأول " دانتيل " و إختلف الإسم الأخير بإختلاف اللون . صاح الأبيض " أنا لون الفرح " بالتأكيد سأصبح فستان زفاف . 

أردف لون أخضر فاقع ، هل تعلمون أنهم أصبحوا يطعموا بعض الأحذية بالدانتيل ، ماذا لو انتهينا كأحذية . 

لا يهم ، لا يهم .. المهم أن تنتهي حياة المخزن الرتيبة . 

قتلني الملل .. 


في المصنع ، علمت من الثرثرات بين أصوات المقص و الماكينة إنه تم تحويل الأثواب الملونة من الدانتيل إلى " بيبي دول " . لم أفهم معنى الكلمة . و لكن قبل وضعي في علبة رقيقة وجدت صورة لإمرأة حسناء ترتدي ما يبدو  إنه هيئتي الجديدة . 

ألقى العمال العلب الرقيقة بإهمال . كان في إستقبال العلب إمرأة سمراء سيئة المزاج . تصيح بالعمال المهملين كي يكفوا إهمالهم و تصيح بعاملات سيصبحن رفقتي الجديدة . 

رصوا البضاعة ، إعملوا لكم همة ..

في لحظة تحولت فقط إلى بضاعة ، بداية لا تبدو مبشرة كثيرا لرحلتي الجديدة 


انتهى بي الأمر معلقا على شماعة مع إخوتي من نفس النوع و مختلف الألوان . تحمل الشماعة حرف M . علمت لاحقا بإنه المقاس . 


أن تكون ذا نفع ، إعتقدت دومًا أن هذا هو الهدف من حياة أي شئ في هذا العالم . ما جدوى الوجود بلا منفعة . 


على الشماعة الM ، تعلمت أن بعض الناس لا يرون هذا الهدف البسيط من وجودهم في هذا العالم  " أن تكون ذا نفع " 

صديقاتي البائعات تنافسن فيما بينهن على رضاء السمراء سيئة المزاج ، كما تنافسن على المبيعات . و المنافسة يفترض أن تكون ذات نفع ، إلا أنهن مارسن الكثير من الضرر من خلالها . 

السمراء سيئة المزاج مطلقة ، تعول طفلين . طليقها هارب من أبوته .  شاهدتها تبكي مرة ، كما شاهدتها تضحك في مشهد نادر و كانت في صحبتها طفلة باسمة ، سمراء ، مصفف شعرها بعناية و ترتدي فستان يبدو جديد . 

البنات يبحثن عن زوج ، كلهن بإستثناء واحدة مخطوبة . حوارتهن مكررة . تشبه بعض حوارات الزبائن . عن رجال أنذال . عن جروح قديمة . عن آمال حية و أخرى ميتة . 
يتهامسن فيما بينهن ، أي مننا أجمل ، يناقشن أي الألوان يفضل الرجال . 

مع كل زبونة جديدة تكرر إحدى الفتيات مجموعة من الجمل ، " تحبي أساعدك ، ده في منه مقاسات ، ألوانه كلها معروضة ، هيبقى حلو عليكي قوي " 

إطلعت على أجسادهن جميعا ، لكنه ليس من اللائق البوح بالأسرار . 

إحدى الزبائن تمسكت بي كما يتمسك الغريق بالقشة .

كانت تصحبها إمرأة سمينة تتصبب عرقا ، طلبت كرسيًا لتستريح . 

نظرت لها المرأة الغارقة في العرق بحسم ، حلو يا ماما بس مافيش عروسة بتلبس إسود ، إبقي خلي جوزك يجيبهولك بعدين . 

أشارت السمينة للأبيض و قالت هناخد ده . 

حياتي على الشماعة مسلية ، لكنني بدأت أخشى شبح الملل . كررت البنات فكرة أن الرجال يفضلن اللون الأسود و مع ذلك لا أزال على الشماعة . إختفت المقاسات الأكبر . 

حتى جاء يوم الغزو . و الغزو كان مجموعة من البنات الصاخبات ، صديقات ، فرغن من دراستهن للتو . 
كأنه إعصار من البهجة عم المكان . قالت الصاخبات لإحدى البنات 

بندور على هدية لصاحبتنا ، أصلها هتتخطب 

و بين ضحكات مكسوفة و تعليقات مكتومة وقع إختيارهن علي . 

إنتقلت من الشماعة إلى علبتي الرقيقة . لفوا العلبة بشريط . أصبحت هدية جميلة 


كم أنا سعيد .. أخيرا سأصبح ذو نفع 


زارت البنات الصديقة . 

شابة تجاوزت العشرين توا . 

تبدو صديقتي الجديدة جميلة ، هي أجمل الصاخبات . 

تبادلن الضحكات و الأمنيات و النميمة . 


ظننت أنه بإنتهاء الزيارة يبدأ تحقق هدف وجودي في الحياة و أصبح ذا نفعا لتلك الجميلة . لكن هيهات .. كم كنت ساذجًا .

بعد الزيارة جربتني الجميلة أمام المرآة . 

جميلة هي حقاً .. لكنه ليس من اللائق البوح بمثل هذه الأسرار . 

بعد أن إطمئنت إن " المقاس مضبوط " أعادتني بعناية إلى علبتي الرقيقة . و هاتفت العريس لتحكي له تفاصيل الزيارة . 

كم أطوق للتعرف على هذا العريس .. 

كم هو محظوظ هذا العريس .. 


مرت أسابيع ، و أنا في ظلمات فوقها ظلمات . 

يشاركني ظلمة الدولاب باقي " الجهاز " . و " الجهاز " هو ما يطلقوه على ما تشتريه الفتاة للإستعداد للزواج .

بيجاما حريرة ، و قميص نوم طويل بروب و أنا . 

الشابة الجميلة تبدأ رحلة " الجهاز " للتو . 

بعد الأسابيع ، أخرجتنا الجميلة من مكمننا باكية . 

يعني أنا أعمل إيه في الحاجة دي دلوقتي ، أجابت أختها ، يا عبيطة بكرة يجي غيره . هترمي الحاجة علشان الخطوبة إتفسخت ؟!

كُسر قلب الجميلة مما يعني أن إنتظاري لأن أكون ذا نفع سيطول . 

أضافت الجميلة لشنطة الجهاز أشياء أخرى مع الوقت . 

و كانت كلما أضافت شيئا تفقد ما تمتلكه . 

زاد وزن الجميلة مع الوقت ، اصبحت اسبب لها الإحباط بعد ان كنت أرى في عيونها الأمل كلما أمسكت بي .

توقفت عن إضافة الجديد إلى المجموعة . إكتفت بتفقد سنوي ، مع ترتيب الدولاب . 

حتى جاء يوما لأجد جميلتي مهتمة . أخرجتني من علبتي . كانت فقدت من وزنها ما يسمح ان ترتدي M . لكن لم يعد جسدها البض كما كان آول لقائنا . لكنها بقت جميلة . 

الفرحة و الأمل في عينيها و صوتها لا يمكن أن تخطئهما . 

جميلتي تحب .. 

ذكرني وهج الحب في إبتسامتها بسبب وجودي في هذا العالم ، أن أكون ذا نفعا . 

ياااه .. أنا كنت نسيت و أنا مركون في الدولاب . 

هاتفت الجميلة الحبيب و هي ترتديني .. وصفتني له .. سمعتها تقول ، لا عيب .. ماينفعش .. حاضر .. حاضر .. خلاص . أنهت الجميلة المكالمة . و وقفت تفكر أمام المرآة و هي تتفقد ما فعلته عشر سنوات بجسدها .. فكرت في شئ ما ، ثم قالت لصورتها في المرآة بإستهتار ، و إيه يعني . 

إلتقطت الجميلة لنا عدة صور . كم أبدو رائعا في الصور . 

أرسلت الجميلة الصور للحبيب . و أضافت لشنطة الجهاز بعض القطع الأخرى .

ده ينفع قميص الدخلة ، همهمت و هي تضيف بيبي دول شيفون قصير أبيض اللون إلى مجموعة مقتنياتها . 

لما طال إنتظاري بعد الإضافة علمت إن الحبيب ذهب كما ذهب أخرون إلى غير رجعة . 

حافظت الجميلة على عادتها السنوية في تفقدنا و لكنها في أحد الأيام قررت أنه لا داعي للإحتفاظ بالجهاز و إنه يجب إستخدامه .

ظننتها لحظة الحسم و لكن مصيري لم يتغير.  كلمتني الجميلة يوما و قالت 

انا هألبسك فين و لمين ؟!

لكن قرارها بإستخدام الجهاز على الأقل سمح لي برؤيتها أكثر . 

ملابس داخلية و بيجامات حريرية وجدت طريقها لإستخدام الجميلة . بقت فقط قمصان النوم الناعمة المغرية في ظلمات الجهاز . 

مالهمش إستخدام .. هكذا ببساطة قتلتني 

تذكرت يوم قتلتني بعبارتها صديقي الأخضر الفاقع الذي خشى من مصيره إذا قرر المصنعون تطعيم الأحذية بالدانتيل .. تمنيت لو كنت حذاء للجميلة ، أو ربما واحدة من تلك البيجامات . 

كل ما أردته هو أن أكون ذا نفعا .. لكني إنتهيت في يد الجميلة . 

قبل عيد ميلادها الأربعين بأيام أخرجت الجميلة شنطة الجهاز . جربت محتوياتها كما تعودت أمام المرآة . نظرت لنفسها و هي ترتدي قميص الدخلة .. أجهشت الجميلة بالبكاء . 

على غير عادتها لم تعيدنا الجميلة لغيبات الدولاب بعناية . ألقت بنا بإهمال على سريرها . و ليومين متتاليين لم نعد نسمع إلا نحيب الجميلة . 

سنين بحوش في حاجات ماعملتش بيها حاجة .. سنين جاهزة لقطر فاتني .. الحلل دي أعمل بيها إيه ، طقم الصيني ، الفضية .. شتى عمري اللي رميته في حاجات هموت و هي هتعيش بعدي من غير فائدة ..

توقف نحيب الجميلة حينما دبت حركة غير عادية في المنزل . 

تتخلص الجميلة من جهازها بالبيع . 

عملت open day و بتبيع الجهاز . هكذا شرحت واحدة ممن كن صاخبات يوما لصديقتها . 

الصاخبة لم تعد صاخبة ، اصبحت عكرة المزاج على الرغم من خاتم ماسي كبير حرصت على إرتدائه لمراسم جنازة حلم صديقتها .. وطفل زنان لا يكف عن الشكوى . 

تخلصت الجميلة من كل شئ عداي . 

قضت ليلتها في غرفتها ترتديني . بكت الجميلة كثيراً . 

و لكنها نامت ليلتها في حضن الحبيب .. هكذا قالت ، المخدة دي إنت .. 

قميص نوم دانتيل إسود و فتاة بعمر الأربعين و مخدة بإسم الحبيب و سكون لا يكسره سوى نهنهات الجميلة .. 

لا أعلم لماذ تبكي .. لا أعتقد إنها تعلم لماذا تبكي 

لكنها قد تكون دموع الراحة .. تخلصت لتوها من حمل ثقيل و أصبحت لتوها أقرب ما يكون لليلة طالما أرادتها طويلا . 

بكت في حضن الحبيب ( المخدة ) حتى نامت . 

و إستيقظت شخصا جديدا .. 


بهدوء قاتل ، سحبت الجميلة مقص من أحد الأدراج . خلعتني و تشممتني .. تنفستني بعمق . كانت رائحتها تغرقني . كانت الجميلة جميلة الرائحة حد الإدمان . 

و بنفس الهدوء ، بدأت الجميلة في القص . قطع صغيرة جداً . 

تكاد تكون قد أعادتني لنشأتي الأولى ، مجرد خيوط . 

جمعت الجميلة العارية القصاقيص و ألقت بهم في سلة المهملات . 

كل ما أردته / أرادته هو أن أكون ذا نفعا .. 


2 comments:

L.G. said...

يا نهار أبيض :) ده من وحي الصداقة الكلام ده :)
بصي قصة اخونا دانتيل ديه كانت كويسة لحد ما جبتي سيرة الحاجات اللي في الشنطة :) انا عندي شنطة كده وفعلا كل سنة اطلع الحاجة واقول مسيري البسها لما تخطيت 35 قلت كفاية كده وطبعا كنت زدت في الوزن وفيه حاجات صغرت عليا بس الصراحة مبعتش حاجة لكن بقيت بهدي لكل بنت حتتجوز حاجة واقول لو غيري فرح انا كمان حفرح ولو ان والدتي كانت بتعارض في الموضوع ده ولبست الحاجات العادية لكن عمري ما فكرت ادمر حاجة جميلة ابدا واديني وصلت للأربعين عادي حديهم هدايا للناس مش مشكلة ولا حعيط ولا حقطع حاجة الدانتيل الاسود كان ذا نفع بس هو مخدش باله نفع بياع القماش وكسب منه ونفع اللي خيطه وخد خبرة في الخياطة ونفع البياعة اللي بتاخد نسبة من المبيعات ونفع الصديقات اللي خدوا ثواب في صاحبتهم حتى لو في الآخر منفعش نفسه بحاجة واتخزن عند الجميلة زي ما كان في المخزن قبل ما يعيش الحياة

منها خلقنا واليها نعود هي رحلة في السكة وخلاص مش احسن ما كان المخزن اتحرق من الاول او القماشة ضاعت خالص :)

اضحك خليك متفاءل وهون المسائل البحر في يوم يتجمد وف لحظة بيرجع سائل

Shimaa Gamal said...

مافيش بنت في مصر ماعندهاش شنطة :) أنا كمان قررت أستخدم الحاجات اللي في الشنطة و كل لما حد يتجوز أديله حاجة هدية .

المهم بقى إنك لقطي المهم ، إن ممكن تكون ذا نفع و إنت مش واخد بالك . مش شرط يكون نفعك في الحياة هو الفكرة اللي إنت متخيلها عن نفسك

أنا متفائلة . بس هو واضح إن قصة أخونا دانتيل قلبت نكد :) نعوضها في باقي الألوان